«إجازة» قصة قصيرة للكاتب مصطفى علي عمار

«إجازة»  قصة  قصيرة للكاتب مصطفى علي عمار
«إجازة»  قصة  قصيرة للكاتب مصطفى علي عمار

انتهى اليوم الأخير من الامتحانات وانتهت فترة الدراسة للصف الثاني الإعدادي في بداية الثمانينات... بعض زملائي يتحدثون فيما بينهم قائلين:  من غدٍ نبدأ العمل في الحقول  بجمع "اللطعة" من القطن أو رش المبيد  وفي المقابل كلٌّ منا يحصل على  مبلغ خمسة قروش في اليوم... 

أستمع لهم ونحن نمشي في الطريق متمنيًا أن يوافق والدي هذا العام كي أذهب للجمعية الزراعية وأسجل إسمي مع زملائي فها أنا قد كبرت ويستطيع أن يطمئن عليّ. فكلما طلبت منه العمل يقول لي: ما تطلبه من طلبات ألبيها لك أيًا كانت. أنت تلميذ مهمتك طلب العلم حتى تكبر والإجازة هي من حقك أن تروح عن نفسك فيها...  إنما أن تذهب للعمل وترهقها فلا وألف لا، لأنني أخشى يا ولدي عليك أنت لا زلت صغيرًا ومهمتي أنا النفقة عليك.

وكما تربينا في بيت جدك لا بد أن تسمع أنت الكلام فأولادنا لا يعملون عند أحد... لا نسمح بذلك. حينما تكبر لك الحق في تقرير مصيرك والاعتماد على ساعدك.

أحاول إقناعه لكنها الجمعية الزراعية وليست شخصًا... فهي ملك الحكومة، وأنا حقًا أريد الاعتماد على نفسي وأخوض تجربة العمل والكد والنفقة على نفسي... كلمت والدتي في الأمر لتقنعه، وعدتني أن تقنعه هذه المرة... بعد مرور  يوم من الإجازة المدرسية بشرتني والدتي بالموافقة من والدي نزولا على رغبتي في التجربة... طرت من الفرح وذهبت  لتسجيل اسمي بالجمعية كان صديقي عمار يحاول إقناع أهله بالموافقة لكي يأتي معي واتفقنا على أن نتقابل غدًا في الجمعية إذا سمحوا له،  وفي صباح اليوم توجهت  لاستلام العمل مع الأطفال... وكأن المدرسة  كلها جاءت للعمل في الجمعية...

استقبلوني بالتهليل والفرح لتواجدي معهم في العمل... كنت سعيدًا وكأنه يوم العيد. جلست معهم في الخارج لاستماع اسمي مع العاملين، ولم تمضِ لحظات حتى حضر صديقي عمار لتزداد سعادتي ويخبرني بأنه جاء ليسجل اسمه ويعمل معي... واشترط على كاتب  الجمعية أن نعمل سويًا في حقل واحد... تبسم له وقال:  لأجل إخلاصك لصديقك سوف تكونان أنتما الاثنان في مكان عمل واحد... ونادى على الأسماء لتوزيع العمل... وكان نصيبي أنا وعمار وبعض من الزملاء أن نعمل في حوض الملك القريب من القرية...

تسلمنا عربة رش المبيدات وقمنا بتقسيم بعضنا... جزء يقوم بجرها من الأمام وجزء آخر يدفعها من الخلف... أرهقتنا طوال الطريق فهي عربة كبيرة بأربعة عجلات مطاطية و كأنها سيارة ربع نقل... كانت نظرات المزارعين لنا في الطريق تسعدني فها هم يروننا رجالا نستطيع العمل فكلما قابلنا شخصٌ أو جماعة رددوا لنا مشجعين: (شدوا حيلكم يا رجاله) أو ( عفارم عليكم) أو (مرحبًا رجال المستقبل)...  إلى أن وصلنا للحقل بعد ثلاثة كيلو متر تقريبًا من الجمعية، وبدأت مرحلة الاستعداد  للعمل وضعنا بها المبيد و قمنا بملء المياه بالدلو من الترعة القريبة... نتبادل  حمل الدلو في شكل طابور إلى أن نفرغ المياه بخزان العربة... قال المهندس المشرف:  إلى أن تصلوا لعدد مائة دلو مياه سوف نبدأ العمل.

أنهينا العدد ونادينا على المهندس المشرف وهو جالس تحت النخلة يشرب الشاي مع بعض المزارعين... قام  وأعطانا الأوامر بتشغيل الماكينة الخاصة برش المبيد بالعربة  وسحب خرطوم الرش الكبير لآخر الحقل على أن  نحمله على أكتافنا في شكل طابور حاولنا أكثر من عشرين مرة تشغيلها  دون جدوى... قال أحد  زملائي: هذا حالها كل يوم لا تعمل... قلت له:  وما الحل؟ رد علىّ المهندس وقال: كل منكم يأخذ دلوًا معبأ بالمبيد ويقوم برشه يدويًا. وشرح لنا  الطريقة  لنا بأن نضع ليفة  من ليف النخيل في المبيد ونسحبها بسرعة وهي محملة بالمبيد  لنرش بها على الزرع ونحن نمشي ذهابًا وإيابًا داخل الحقل حتى ننهي الرش في الحقل وننتقل لحقل غيره...  وبدأنا العمل  وكان نصيب كل منا حمل عشرة دلاء ورشها بالحقل...

كنا سعداء رغم مشقة العمل وأنهينا العمل بعد الساعة الواحدة ظهرًا وعدنا للجمعية وسلمنا العهدة ووقعنا  في دفتر الانصراف وكأننا موظفون كبار، ودعنا بعضنا للقاء الغد وقال لي المهندس المشرف: أنت وصديقك عمار من أكفأ العمال معي اليوم ولكما حافز يصرف لكما في نهاية الشهر... فرحنا لم نكن نتوقع أننا نتفوق في العمل ونحوزعلى إعجاب المشرف وتقديره ... اصطحبت صديقي وافترقنا على ناصية الشارع ليذهب كل منا لمنزله...

سلمت على والدتي وأنا تغمرني السعادة لإحساسي بأنني رجل أصبح يعمل ويكد وها هو الآن عائد من عمله  و طمأنتها أن العمل سهل... وضعت لي الطعام بسرعة خشية منها علي إرهاقي في العمل... لم أطعم سوى لقمة وصرخت:  بطني ... بطني كانت بطني تتلوى وكأن بها سكاكين تمزقها... ارتميت على الأرض وأنا أصرخ وأتلوى يمينًا و شمالا.  تجمع الجيران والأهل على صراخي وصراخ  أمي.

لم يكن والدي قد حضر من عمله... طلبوا الإسعاف... حملوني للمشفى قال الأطباء : حالة تسمم لا بد من عمل  غسيل معدة على الفور... بدأوا في غسيل المعدة  بعد أن أحضروا دلو مياه وصبوا فيه كمية من الملح وقاموا بتحريكه لإذابة الملح وأحكم إمساكي اثنان من عمال المشفى والثالث كان يفتح فمي ويسقيني من الشربة بالكوب بسرعة تباعًا وأنا أتلوى تارة وأشرب المحلول مرغمًا  ثم أتقيأ  فأفرغ  ما في بطني تارة... حتى شعرت بتحسن حالتي وزال الألم  من معدتي، وضعوني على سرير... سمعت صوت صراخ  صديقي عمار في الخارج فعلمت أنه تسمم أيضًا ويجرى له غسيل معدة. وتتابع الزملاء واحدا تلو الآخر  إلى أن خرجنا من المشفى بعد غسيل المعدة في نفس اليوم قبل غروب الشمس، ونحن  نتساءل هل نعود للعمل مرة آخرى أم نكتفي بهذا التسمم؟ وعلمت أن كل من يعمل في رش المبيد دون كمامات أو عدم  ارتداء زي الأمن الواقي يحدث له تسمم معوي وإن لم تنظف أمعاؤه في نفس اليوم قد يتوفى...

قال زملائي نحن تعودنا على هذا من حين لآخر ومن سوء حظكما أن برنامج العمل هذا الأسبوع هو رش المبيد والأسبوع القادم العمل أسهل  سوف نجمع "اللطعة" من الحقل... ضحك عمار ونظر إلي قائلا: ونحن لم نتعود... ابتسمت وقلت في نفسي: ليتني سمعت كلام أبي فكيف لي الآن  أن أواجه أبي؟!